فصل: تفسير الآيات (9- 17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (9- 17):

قوله تعالى: {يوم تبلى السرائر (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا ناصر (10) وَالسماء ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقول فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بالهزل (14) إِنَّهُمْ يكيدون كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان هذا يحرك السامع غاية التحريك لأن يقول: متى تكون رجعه له؟ قال مجيباً له: {يوم تبلى} وبناه للمفعول إشارة مع التنبيه على السهولة إلى أن من الأمر البين غاية البيان أن الذي يبلوها هو الذي يرجعها، وهو الله سبحانه وتعالى من غير احتياج إلى ذكره {السرائر} أي كل ما انطوت عليه الصدور من العقائد والنيات، وأخفته الجوارح من الإخلال بالوضوء والغسل ونحو ذلك من جميع الجنايات، بأن تخالط السرائر في ذلك اليوم، وهو يوم القيامة، من الأمور الهائلة ما يميلها فيحيلها عما هي عليه فتعود جهراً بعد أن كانت سراً، فيميز طيبها من خبيثها ويجازى عليه صاحبه.
ولما كان المانع من جزائه عند إظهار سرائره إما هو نفسه أو أحد ينصره، قال مسبباً عن إظهار ما يجتهد في إخفائه: {فما له} أي الإنسان الذي أخرجت سرائره، وأعرق في التعميم والنفي فقال: {من قوة} أي يمنع بها نفسه من الجزاء {ولا ناصر} أي ينصره فيمنعه من نفوذ الحكم فيه.
وليس الدفع إلا بهذين الأمرين: قوة قائمة به أو قوة خارجة عنه.
ولما اشتملت هذه الجمل على وجازتها على الذروة العليا من البلاغة في إثبات البعث والجزاء والوحدانية له سبحانه وتعالى إلى غير ذلك من بحور العلوم، فثبت أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى، فثبت أن كل ما فيه حق مع منازعتهم في ذلك كله، اقتضى الحال الإقسام على حقيته فقال: {والسماء} أي التي كان المطلع الإقسام بها ووصفها بما يؤكد العلم بالعبث الذي هو منبع العلوم والتقوى فعليه مدار السعادة فقال: {ذات الرجع} التي ترجع بالدوران إلى الموضع الذي ابتدأت الدوران منه فترجع الأحوال التي كانت وتصرمت من الليل والنهار والشمس والقمر والكواكب والفصول من الشتاء وما فيه من برد ومطر، والصيف وما فيه من حر وصفاء وسكون وغير ذلك والنبات بعد تهشمه وصيرورته تراباً مختلطاً بتراب الأرض وترجع الماء على قول من يقول: إن السحاب يأخذه من البحر ويعلو به فيعصره في الهواء ثم يرده إلى الأرض- وغير ذلك من الأمور الدال كل منها قطعاً على أن فاعل ذلك قادر على إعادة كل ما فني كما كان من غير فرق أصلاً.
ولما ذكر الأمر العلوي بادئاً به لشرفه، أتبعه السفلي فقال تعالى: {والأرض} أي مسكنكم الذي أنتم ملابسوه ومعانوه كل وقت وملامسوه {ذات الصدع} أي التي تتصدع وتنشق فيخرج منها النبات والعيون بدءاً وإعادة دلالة ظاهرة على البعث، فجمع بالقسم العالم العلوي الذي هو كالرجل والسفلي الذي هو كالمرأة، فكما أن الرجل يسقيها من مائه فتصدع عن الولد، فكذلك السماء تسقي الأرض فتتصدع عن النبات وكما أنها تتصدع عن النبات بعد فنائه وصيرورته رفاتاً فيعود كما كان فكذلك تتصدع عن الناس بعد فنائهم فيعودون كما كانوا بإذن ربها من غير فرق أصلاً.
ولما كانت هذه كلها براهين قاطعة ودلائل باهرة ساطعة على حقية القرآن وإتيانه بأعلى البيان، فكان من المستبعد جدًّا طعنهم في القرآن بعد هذا البيان، قال تعالى منبهاً على ذلك بالتأكيد معبراً بالضمير إشارة لما مضى إلى أنه المحدث عنه الآن، فهو الثابت في جميع الأذهان لا غيبة له عن شيء منها أصلاً {إنه} أي القرآن الذي أخبر بهذه الإخبارات التي هي في غاية الوضوح وتقدم أنه {مجيد} و{في لوح محفوظ}، وأن الكفرة {في تكذيب} به ولاسيما ما تضمن منه الإخبار بالبعث: {لقول فصل} أي جدًّا يراد به فصل الأمور، وله من العراقة في الفرق بين الحق والباطل ما صار به يطلق عليه نفس الفصل، ثم أكد الأمر لشدة إنكارهم وجحدهم وتغطيتهم الحق بالباطل فقال: {وما هو} أي القرآن في باطنه ولا ظاهره {بالهزل} أي بالضعيف المرذول الذي لا طائل تحته، فمن حقه ما هو عليه الآن من كونه مهيباً في القلوب معظماً في الصدور يرتفع به قارئه وسامعه عن أن يلم بهزل ويعلم به في أعين العامة والخاصة.
ولما كان ثبات هذا على هذا الوجه مقتضياً ولابد رجوعهم عن العناد، فكان ذلك محركاً للسامع إلى تعرف ما كان من أمرهم، استأنف قوله دلالة على بقائهم على الإنكار وأكده تنبيهاً على أن بقاءهم على العناد- مع هذا مستبعد جدًّا {إنهم} أي الكفار {يكيدون} أي بما يعملون في أمره من الحيل {كيداً} في إبطاله وإطفاء نوره بإثباتك أو إخراجك أو قتلك أو تنفير الناس عنك والحال أنه لا قوة لهم أصلاً على ذلك ولا ناصر لهم بوجه من الوجوه وسمي جزاؤه لهم سبحانه كيداً مشاكلة، ولأنه خفي عنهم ومكروه إليهم فهو على صورة الكيد فقال: {وأكيد} أي أنا بإتمام اقتداري {كيداً} باستدراجي لهم إلى توغلهم فيما يغضبني ليكمل ما يوجب أخذي لهم من حيث لا يشعرون.
ولما كان هذا معلما بأنهم عدم لا اعتبار بهم، قال مسبباً عنه تهديداً لهم يا له من تهديد ما أصعبه: {فمهل} أي تمهيلاً عظيماً بالتدريج.
ولما كان في المكذبين في علم الله من يؤمن فليس مستحقًّا لإيقاع مثل هذا التهديد، عبر بالوصف المقتضي للرسوخ فقال: {الكافرين} أي فلا تدع عليهم ولا تستعجل لهم بالإهلاك، فإنا لا نعجل لأنه لا يعجل بالعقوبة إلا من يخاف الفوت، حكي أن الحجاج كان سجنه من رخام وأرضه من رصاص، فكان يتلون بتلون الأوقات، فوقت الحر جهنم، ووقت البرد زمهرير، فمر به يوماً فاستغاثوا فطأطأ رأسه لهم وقال: اخسؤوا فيها ولا تكلمون، فأخذت الأرض قوائم جواده فرفع طرفه إلى السماء وقال: سبحانك لا يعجل بالعقوبة إلا من يخاف الفوت، وانطلق من وقته، فإن العجلة- وهي- إيقاع الشيء في غير وقته الأليق به- نقص فإنه لا يعجل إلا من يكون ما يفعل المستعجل عليه خارجاً عن قبضته.
ولما كانت صيغة التفعيل ربما أفهمت التطويل، أكد ذلك مجرداً للفعل دلالة على أن المراد بالأول إيقاع الإمهال مع أن زمنه قصير بالتدريج ليطمئن الممهل بذلك وتصير له به قوة عظيمة ودرته؟ وعزيمة صادقة لأن ما يقولونه مما تشتد كراهة النفوس له، فلا يقدر أحد على الإعراض عنه إلا بمعونة عظيمة: {أمهلهم} أي بالإعراض عنهم مرة واحدة بعد التدريج لما صار لك على حمله من القوة بالتدريج- الذي أمرت به سابقاً {رويداً} أي إمهالاً يسيراً فستكون عن قريب لهم أمور، وأي أمور تشفي الصدور، وهو تصغير (اروادا) تصغير ترخيم، قال ابن برجان: وهي كلمة تعطي الرفق، وهذا الآخر هو المراد بما في أولها من أن كلا منهم ومن غيرهم محفوظ بحفظه مضبوطة أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته وأحواله، فإن ذلك مستلزم لأنه في القبضة، فقد التقى الطرفان على أعظم شأن بأبين برهان، ووقع أول هذا الوعيد يوم بدر ثم تولى نكالهم وتحقيرهم وإسفالهم إلى أن ذهب كثير منهم بالسيف وكثير منهم بالموت حتف الأنف إلى النار، وبقي الباقون في الصغار إلى أن أعزهم الله بعز الإسلام، وصاروا من الأكابر الأعلام، تشريفاً وتكريماً وتعظيماً لهذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، والله تعالى هو أعلم بالصواب. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم إنه سبحانه لما أقام الدليل على صحة القول بالبعث والقيامة، وصف حاله في ذلك اليوم فقال: {يوم تبلى السرائر (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا ناصر (10)}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
{يوم} منصوب بـ: {رجعه} ومن جعل الضمير في {رجعه} للماء وفسره بـ: {رجعه} إلى مخرجه من {الصلب والترائب} أو إلى الحالة الأولى نصب الظرف بقوله: {فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ} أي ماله من قوة ذلك اليوم.
المسألة الثانية:
{تبلى} أي تختبر، و{السرائر} ما أسر في القلوب من العقائد والنيات، وما أخفى من الأعمال، وفي كيفية الابتلاء والاختبار هاهنا أقوال:
الأول: ما ذكره القفال معنى الاختبار هاهنا أن أعمال الإنسان يوم القيامة تعرض عليه وينظر أيضًا في الصحيفة التي كتبت الملائكة فيها تفاصيل أعمالهم ليعلم أن المذكور هل هو مطابق للمكتوب، ولما كانت المحاسبة يوم القيامة واقعة على هذا الوجه جاز أن يسمى هذا المعنى ابتلاء، وهذه التسمية غير بعيدة لعباده لأنها ابتلاء وامتحان، وإن كان عالما بتفاصيل ما عملوه وما لم يعملوه.
والوجه الثاني: أن الأفعال إنما يستحق عليها الثواب والعقاب لوجوهها، فرب فعل يكون ظاهره حسناً وباطنه قبيحاً، وربما كان بالعكس.
فاختبارها ما يعتبر بين تلك الوجوه المتعارضة من المعارضة والترجيح، حتى يظهر أن الوجه الراجح ما هو، والمرجوح ما هو.
الثالث: قال أبو مسلم: بلوت يقع على إظهار الشيء ويقع على امتحانه كقوله: {وَنَبْلُوَ أخباركم} [محمد: 31] وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم} [البقرة: 155] ثم قال المفسرون: {السرائر} التي تكون بين الله وبين العبد تختبر يوم القيامة حتى يظهر خبرها من سرها ومؤديها من مضيعها، وهذا معنى قول ابن عمر رضي الله عنهما: يبدي الله يوم القيامة كل سر منها، فيكون ذيناً في الوجوه وشيناً في الوجوه، يعني من أداها كان وجهه مشرقاً ومن ضيعها كان وجهه أغبر.
المسألة الثالثة:
دلت الآية على أنه لا قوة للعبد ذلك اليوم، لأن قوة الإنسان إما أن تكون له لذاته أو مستفادة من غيره، فالأول منفي بقوله تعالى: {فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ} والثاني منفي بقوله: {وَلاَ نَاصِرٍ} والمعنى ماله من قوة يدفع بها عن نفسه ما حل من العذاب {وَلاَ نَاصِرٍ} ينصره في دفعه ولا شك أنه زجر وتحذير، ومعنى دخول من في قوله: {مِن قُوَّةٍ} على وجه النفي لقليل ذلك وكثيره، كأنه قيل: ماله من شيء من القوة ولا أحد من الأنصار.
المسألة الرابعة:
يمكن أن يتمسك بهذه الآية في نفي الشفاعة، كقوله تعالى: {واتقوا يوما لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} إلى قوله: {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة: 48]، الجواب: ما تقدم.
{وَالسماء ذَاتِ الرَّجْعِ (11)}
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما فرغ من دليل التوحيد، والمعاد أقسم قسماً آخر، أما قوله: {والسماء ذَاتِ الرجع} فنقول: قال الزجاج {الرجع} المطر لأنه يجيء ويتكرر.
واعلم أن كلام الزجاج وسائر أئمة اللغة صريح في أن الرجع ليس اسماً موضوعاً للمطر بل سمي رجعاً على سبيل المجاز، ولحسن هذا المجاز وجوه أحدها: قال القفال: كأنه من ترجيع الصوت وهو إعادته ووصل الحروف به، فكذا المطر لكونه عائداً مرة بعد أخرى سمي رجعا.
وثانيها: أن العرب كانوا يزعمون أن السحاب يحمل الماء من بحار الأرض ثم يرجعه إلى الأر.
وثالثها: أنهم أرادوا التفاؤل فسموه رجعاً ليرج.
ورابعها: أن المطر يرجع في كل عام، إذا عرفت هذا فنقول للمفسرين أقوال: أحدها: قال ابن عباس: {والسماء ذَاتِ الرجع} أي ذات المطر يرجع لمطر بعد مط.
وثانيها: رجع السماء إعطاء الخير الذي يكون من جهتها حالاً بعد حال على مرور الأزمان ترجعه رجعاً، أي تعطيه مرة بعد مر.
وثالثها: قال ابن زيد: هو أنها ترد وترجع شمسها وقمرها بعد مغيبهما، والقول هو الأول، أما قوله تعالى: {والأرض ذَاتِ الصدع} فاعلم أن الصدع هو الشق ومنه قوله تعالى: {يومئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43] أي يتفرقون وللمفسرين أقوال قال ابن عباس: تنشق عن النبات والأشجار، وقال مجاهد: هو الجبلان بينهما شق وطريق نافذ.
كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً} [الأنبياء: 31] وقال الليث: {الصدع} نبات الأرض، لأنه يصدع الأرض فتنصدع به، وعلى هذا سمي النبات صدعاً لأنه صادع للأرض، واعلم أنه سبحانه كما جعل، كيفية خلقة الحيوان دليلاً على معرفة المبدأ والمعاد، ذكر في هذا القسم كيفية خلقة النبات، فالسماء ذات الرجع كالأب، والأرض ذات الصدع كالأم وكلاهما من النعم العظام لأن نعم الدنيا موقوفة على ما ينزل من السماء من المطر متكرراً، وعلى ما ينبت من الأرض كذلك، ثم إنه تعالى أردف هذا القسم بالمقسم عليه فقال: {إِنَّهُ لَقول فَصْلٌ}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
في هذا الضمير قولان:
الأول: ما قال القفال وهو: أن المعنى أن ما أخبرتكم به من قدرتي على إحيائكم في اليوم الذي تبلى فيه سرائركم قول فصل وحق.
والثاني: أنه عائد إلى القرآن أي القرآن فاصل بين الحق والباطل كما قيل: له فرقان، والأول أولى لأن عود الضمير إلى المذكور السالف أولى.
المسألة الثانية:
{قول فَصْلٌ} أي حكم ينفصل به الحق عن الباطل، ومنه فصل الخصومات وهو قطعها بالحكم، ويقال: هذا فصل أي قاطع للمراء والنزاع، وقال بعض المفسرين: معناه أنه جد حق لقوله: {وَمَا هوَ بالهزل} أي باللعب، والمعنى أن القرآن أنزل بالجد، ولم ينزل باللعب، ثم قال: {وَمَا هوَ بالهزل} والمعنى أن البيان الفصل قد يذكر على سبيل الجد والاهتمام بشأنه وقد يكون على غير سبيل الجد وهذا الموضع من ذلك، ثم قال: {إِنَّهُمْ يكيدون كَيْداً} وذلك الكيد على وجوه.
منها بإلقاء الشبهات كقولهم: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} [الأنعام: 29] {مَن يُحىِ العظام وَهِىَ رَمِيمٌ} [ياس: 78] {أَجَعَلَ الآلهة إلها واحدا} [ص: 5] {لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] {فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5] ومنها بالطعن فيه بكونه ساحراً وشاعراً ومجنوناً، ومنها بقصد قتله على ما قاله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقتلوكَ} [الأنفال: 30] ثم قال: {وَأَكِيدُ كَيْداً}.
واعلم أن الكيد في حق الله تعالى محمول على وجوه:
أحدها: دفعه تعالى كيد الكفرة عن محمد عليه الصلاة والسلام ويقابل ذلك الكيد بنصرته وإعلاء دينه تسمية لأحد المتقابلين باسم كقوله تعالى: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40] وقال الشاعر:
ألا لا يجهلن أحد علينا ** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وكقوله تعالى: {نَسُواْ الله فأنساهم أَنفُسَهُمْ} [الحشر: 19] {يخادعون الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وثانيها: أن كيده تعالى بهم هو إمهاله إياهم على كفرهم حتى يأخذهم على غرة، ثم قال: {فَمَهّلِ الكافرين} أي لا تدع بهلاكهم ولا تستعجل، ثم إنه تعالى لما أمره بإمهالهم بين أن ذلك الإمهال المأمور به قليل، فقال: {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} فكرر وخالف بين اللفظين لزيادة التسكين من الرسول عليه الصلاة والسلام والتصبر.
وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى:
قال أبو عبيدة: إن تكبير رويد رود، وأنشد:
يمشي ولا تكلم البطحاء مشيته ** كأنه ثمل يمشي على ورد

أي على مهلة ورفق وتؤدة، وذكر أبو علي في باب أسماء الأفعال رويداً زيداً يريد أرود زيداً، ومعناه أمهله وارفق به، قال النحويون: رويد في كلام العرب على ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون اسماً للأمر كقولك: رويد زيداً تريد أرود زيد أي خله ودعه وأرفق به ولا تنصرف رويد في هذا الوجه لأنها غير متمكن.
والثاني: أن يكون بمنزلة سائر المصادر فيضاف إلى ما بعده كما تضاف المصادر تقول: رويد زيد، كما تقول: ضرب زيد قال تعالى: {فَضَرْبَ الرقاب} [محمد: 4]، والثالث: أن يكون نعتاً منصوباً كقولك: ساروا سيراً رويداً، ويقولون أيضًا: ساروا رويداً، يحذفون المنعوت ويقيمون رويداً مقامه كما يفعلون بسائر النعوت المتمكنة، ومن ذلك قول العرب: ضعه رويداً أي وضعاً رويداً، وتقول للرجل: يعالج الشيء الشيء رويداً، أي علاجاً رويداً، ويجوز في هذا الوجه أمران أحدهما: أن يكون رويداً حالا.
والثاني: أن يكون نعتاً فإن أظهرت المنعوت لم يجز أن يكون للحال، والذي في الآية هو ما ذكرنا في الوجه الثالث، لأنه يجوز أن يكون نعتاً للمصدر كأنه قيل: إمهالاً رويداً، ويجوز أن يكون للحال أي أمهلهم غير مستعجل.
المسألة الثانية:
منهم من قال: {أمهلهم رويداً} إلى يوم القيامة وإنما صغر ذلك من حيث علم أن كل ما هو آت قريب، ومنهم من قال: {أمهلهم رويداً} إلى يوم بدر والأول أولى، لأن الذي جرى يوم بدر وفي سائر الغزوات لا يعم الكل، وإذا حمل على أمر الآخرة عم الكل، ولا يمتنع مع ذلك أن يدخل في جملته أمر الدنيا، مما نالهم يوم بدر وغيره، وكل ذلك زجر وتحذير للقوم، وكما أنه تحذير لهم فهو ترغيب في خلاف طريقهم في الطاعات، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. اهـ.